السادة أعضاء أكاديمية الطب الوطنية والضيوف الكرام، سيداتي وسادتي،
يوجد في العالم 800 مليون شخص يعانون من جوع مزمن، ولكن يوجد فيه أيضاً بلدان تزيد فيها نسبة السكان البالغين ممّن يعانون من السمنة أو زيادة الوزن على 70%.
وركّزت مشاكل النظم الغذائية في البلدان النامية حتى أواخر القرن العشرين على العواقب الصحية المترتبة على سوء التغذية، وخاصة التقزّم والهزال لدى الأطفال وفقر الدم لدى النساء اللاتي هنّ في سن الإنجاب.
وقد تغيّر هذا الوضع بشكل كبير، حيث انتقل العالم في غضون بضعة عقود لا غير من عالم تتخذ فيه التغذية مرتسماً تتجاوز فيه معدلات انتشار نقص الوزن معدلات انتشار السمنة بمثلين إلى آخر يتمثل وضعه الحالي في زيادة عدد السكان الذين يعانون من السمنة على عدد من يعانون منهم من نقص الوزن في أنحاء العالم أجمع.
وما إن أصبحت السمنة وزيادة الوزن سمتين يُنظر إليهما على أنهما تميزان المجتمعات الغنية، فإنهما الآن آخذتان في الزيادة بالبلدان المنخفضة الدخل وتلك المتوسطة الدخل، ولا سيما في المناطق الحضرية التي تبلغ فيها سرعة زيادتيهما أوجها.
وتشير تقديرات المنظمة منذ عام 1980 إلى أن معدلات انتشار السمنة في جميع أرجاء العالم قد تجاوزت الضعف، وطرأت عليها زيادات كبيرة شهدتها جميع أقاليم المنظمة. وارتفع عدد الأطفال الذين يعانون من زيادة الوزن في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من 4 ملايين طفل في عام 1990 إلى 10 ملايين طفل في عام 2012.
ورغم أن تراكم الدهون آخذ في الزيادة بكل مكان، فإن وبائياته تختلف باختلاف عمر وباء السمنة. وترتفع في أمريكا الشمالية وأوروبا معدلات انتشار السمنة إلى أقصاها فيما بين فئات الدخل المنخفض من السكان الذين يعيشون غالباً في مناطق حضرية تُبتلى بصعوبة الحصول فيها على أغذية طازجة وتنتشر فيها منافذ الوجبات السريعة هنا وهناك.
أما في البلدان المتضررة مؤخراً بوباء السمنة مثلما هو الحال في إقليم آسيا والمحيط الهادئ، فإن السمنة مشهودة أولاً في صفوف سكان المناطق الحضرية الثرية ومن ثم في المناطق الريفية الفقيرة والأحياء الفقيرة الموجودة بالمناطق الحضرية.
وهذا التحوّل في انتشار السمنة على نطاق واسع بين صفوف السكان يحدث بسرعة مخيفة، إذ ارتفعت معدلات السمنة في مكسيكو سيتي بين البالغين من سكان المدن من 16% في عام 2000 إلى 26% في عام 2012. وبحلول ذلك العام، بلغت نسبة أطفال المدن الذين تراوحت أعمارهم بين 5 سنوات و11 سنة ممّن عانوا من السمنة أو زيادة الوزن 35%. ويوجد الآن على صعيد البلد ككل سبعة مكسيكيين من أصل عشرة مكسيكيين يعانون من زيادة الوزن، ويعاني ثلثهم من السمنة من حيث المعاينة السريرية.
أما في الهند، فقد ارتفعت معدلات انتشار زيادة الوزن من 9.7% مع اقتراب القرن من نهايته إلى 20% تقريباً حسبما أفادت به دراسات نُشِرت بعد عام 2010. وفيما يخص الأطفال والمراهقين، فإن تلك الدراسات تظهر أن السمنة وزيادة الوزن آخذتان في الزيادة بسرعة، لا فيما بين فئات السكان المرتفعة الدخل فحسب بل أيضاً بين الفئات الفقيرة منهم بالمناطق الريفية، التي لا يزال فيها نقص التغذية ونقص الوزن شاغلين من الشواغل الصحية الرئيسية.
ويُظهر الكثير من البلدان الأخرى النامية بسرعة نمطاً مماثلاً، ويمكن أن تؤثر السمنة جنباً إلى جنب مع نقص التغذية في البلد والمجتمع نفسيهما، بل حتى في الأسرة نفسها.
وفيما يخص معدلات انتشار السمنة وزيادة الوزن في الصين التي حلّت فيها وفرة الغذاء محل ندرته بعد أن دامت فيها عقوداً من الزمن، فقد تجاوزت معدلاتهما الضعف خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، وانتقل البلد من مرحلة مكابدة المجاعات إلى مرحلة إقامة الولائم في غضون أقل من جيل واحد.
وأشارت تقديرات وزير الصحة الصيني في عام 2012 إلى وجود أكثر من 300 مليون صيني يعانون من السمنة من أصل عدد سكان الصين البالغ 1.2 مليار نسمة. وتتنافس الصين الآن، وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، مع الولايات المتحدة بوصفها البلد الذي يأوي أكبر عدد من المواطنين الذين يعانون من زيادة الوزن.
ونشرت مجلة لانسيت في وقت سابق من هذا العام تحليلاً مجمّعاً للاتجاهات المختطة بشأن منسب كتلة الجسم لدى البالغين في 200 بلد للفترة الواقعة بين عامي 1975 و2014. وأشارت تقديرات الدراسة في عام 1974 إلى أن عدد البالغين الذي كانوا يعانون من السمنة في جميع أنحاء العالم بلغ 105 ملايين شخص، وبحلول عام 2014 ارتفع هذا العدد ليصل إلى 640 مليون شخص، وهي زيادة بواقع يتجاوز الستة أمثال، أي أكثر من نصف مليار شخص.
وخلص التحليل إلى استنتاج شامل مذهل مؤداه أنه إذا استمرت الاتجاهات المختطة في مرحلة ما بعد عام 2000، فإن احتمال بلوغ الغاية العالمية لمكافحة السمنة التي وضعتها الدول الأعضاء في المنظمة سيكون "صفراً في الواقع".
وهي غاية متواضعة نسبياً في حد ذاتها وتفيد بما يلي: القيام بحلول عام 2025 بوقف زيادة انتشار السمنة وإبقائها على مستواها الذي بلغته في عام 2010، ما يعني أساساً صون هذا الوضع السيء والحيلولة دون أن يصبح أسوأ بكثير.
وهو فعلاً وضع سيء وكارثة وئيدة الخطى.
وتمثل الزيادات الطارئة على نطاق السكان في كتلة الجسم إشارة تحذير من وجود مشكلة كبيرة تلوح في الأفق، وهي تستغرق وقتاً لكي تصلنا ولكنها ستصل إلينا في نهاية المطاف في شكل موجة عارمة من الأمراض المزمنة المرتبطة بنمط الحياة.
وتعدّ الآن أمراض القلب والأوعية الدموية الأمراض القاتلة الرئيسية في أرجاء العالم كافّة، وتميل النوبات القلبية في بلدان العالم النامي إلى حصاد أرواح الناس على حين غرّة ومن دون أن تحمّل النظام الصحي عبئاً طويل الأمد.
وفيما يتعلق بالسرطان الأشد تدميراً من حيث التشخيص في معظم الثقافات، فإن هناك نسبة 70% من المرضى المصابين به في المواضع المحدودة الموارد لا تُشخّص حالتهم إلا في وقت متأخر جداً يكون فيه تخفيف آلامهم الخيار الوحيد لعلاجهم. ولا يوجد في تلك المواضع علاج إشعاعي ولا آخر كيميائي ولا عمليات جراحية ولا علاجات متطورة تبلغ تكلفتها 000 150 دولار أمريكي لكل مريض سنوياً.
وتسهم السمنة في خطورة الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وبعض أنواع السرطان، ولكن يؤدي تراكم الدهون بوصفه عامل خطر مستقل الدور الأقوى في الإصابة بداء السكري. وعلاوة على ذلك، فإن بإمكان هذا الداء بالاقتران مع مضاعفاته المكلفة، ومنها العمى وبتر الأطراف والحاجة إلى غسيل الكلى، أن يحمّل ميزانيات الصحة وإيرادات الأسر عبئاً غير عادي لأجل طويل.
ويمكن أن ينفق المصابون بداء السكري في المناطق الريفية من بعض بلدان آسيا والمحيط الهادئ أكثر من ثلث إجمالي دخل أسرهم على تكاليف الرعاية، كما يمكن في العديد من البلدان أن تستهلك تكاليف رعاية داء السكري لوحده نسبة 20% من ميزانية الصحة برمتها.
وأشارت تقديرات الاتحاد الدولي لداء السكري إلى أن تكاليف رعاية المصابين بالداء في جميع أنحاء العالم بلغت 673 مليار دولار على الأقل في عام 2015.
وأودّ أن أثير مسألتين في إطار الاستناد إلى هذه الاتجاهات بوصفها معلومات أساسية.
أولاهما أنه برغم الجهود الكثيرة المبذولة على عدّة جبهات، لم يتمكن أي بلد في العالم من عكس اتجاه وباء السمنة الذي تعاني منه جميع فئاته العمرية.
أما المسألة الثانية فهي أن تلك الاتجاهات تطالبنا بأن نفكر في ما يعنيه فعلاً إحراز التقدم في القرن الحادي والعشرين.
ويفتح فعلاً النمو الاقتصادي والتعصير اللذان يرتبطان تاريخياً بتحسين الحصائل الصحية بابيهما على مصراعيهما لمنفذ الدخول إلى التسويق المعولم للأطعمة والمشروبات غير الصحية، والتحوّل من أنماط الحياة النشطة إلى تلك المتقاعسة.
وهذه هي أول مرة في التاريخ يؤدي فيها تزايد الرخاء السريع الوقع إلى إصابة الكثيرين بالمرض ممّن كانوا فقراء في السابق، وهو ما يحدث فعلاً في البلدان التي لديها موارد قليلة ونظماً صحية ضعيفة القدرات على الاستجابة. وإذا استمرت الاتجاهات المختطة حالياً، فإن بمقدور داء السكري المكلف أن يلتهم المكاسب المُحقّقة في مجال التنمية الاقتصادية.
سيداتي وسادتي،
إن داء السكري واحد من أكبر الأزمات الصحية العالمية في القرن الحادي والعشرين.
وتشير تقديرات المنظمة إلى أن عدد البالغين المتعايشين مع الداء قد تضاعف إلى أربعة أمثال تقريباً منذ عام 1980، وازداد عددهم من 108 ملايين مريض في ذلك العام إلى 422 مليون مريض في عام 2014، ولا يعلم أكثر من نصف هؤلاء وضعهم من حيث إصابتهم بالداء، بل حتى لا يحصلون على علاج منه.
وازداد أيضاً انتشار الداء على الصعيد العالمي بين فئات البالغين من السكان، وتضاعفت نسبته تقريباً من 4.7% في عام 1980 إلى 8.5% في عام 2014.
وما عاد داء السكري مرتبطاً بالثراء وهو آخذ في الزيادة بكل مكان تقريباً، وتُلاحظ زيادته تحديداً في المدن الواقعة بالبلدان المنخفضة الدخل وتلك المتوسطة الدخل، شأنه شأن سلفه وباء السمنة المنتشر على نطاق فئات السكان ككل.
ويصيب داء السكري من النمط 2 معظم الناس، والذي كان يُعرف باسم داء السكري الذي يصيب البالغين، ولكنه ما عاد كذلك لأنه يصيب الآن الكثير الكثير من المراهقين والأطفال.
ويخلّف الداء سنوياً 1.5 مليون وفاة تقريباً، وينجم عن ارتفاع مستوى سكر الغلوكوز في الدم وفيات أخرى قدرها 2.2 مليون وفاة، وذلك بسبب زيادة خطورة الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية إلى حد كبير، ما يعني أن ارتفاع مستويات سكر الغلوكوز في الدم تسبب وفيات مجموعها 3.7 مليون وفاة سنوياً، منها وفيات نسبتها 43% تحدث قبل أوانها وقبل أن يبلغ الفرد سن السبعين.
ويُنظر عموماً إلى بلدان إقليم آسيا والمحيط الهادئ على أنها بؤرة أزمة داء السكري، والتي يُصاب فيها الناس بالداء في وقت مبكر ويسقطون في براثنه ويموتون من جرائه قبل نظرائهم بالدول الغنية.
ويعكف بعض الباحثين على تحرّي إمكانية استعداد الفرد جينياً للإصابة بالداء من الناحية الفعلية، فيما يدرس آخرون عوامل في البيئة قد تزيد خطر الإصابة به جينياً، أو قد تعمل على الإصابة به من تلقاء نفسها، وذلك لتفسير هذا النمط الوبائي الفريد من نوعه للداء.
وثمة بيّنات متزايدة على أن الأجسام المُبرمجة أثناء فترة الحمل والطفولة المبكرة على استهلاك مدخول منخفض من الطاقة للبقاء على قيد الحياة تتعرّض لتحديات أيضية عندما تتلقى زيادات متواضعة ليس إلا في مدخول السعرات الحرارية.
ويرى بعض الباحثين أن هذا واحد من الأسباب التي قد تبرّر إصابة الناس في الهند والصين بداء السكري قبل أولئك المنحدرين من أصل أوروبي بحوالي عقد من الزمن، وأن هؤلاء الناس قد يصابُون بالداء في أعقاب زيادة طفيفة في أوزانهم لا غير.
ويوجد في بعض البلدان الآسيوية الأكثر اكتظاظاً بالسكان جيل نشأ في كنف فقر المناطق الريفية واعتاد على تناول القليل من الطعام ومزاولة مهن تنطوي على العمل اليدوي الشاق، يعيش الآن في شقق سكنية شاهقة بالمناطق الحضرية ويزاول أعمالاً خاملة ويركب سيارات قليلة التكلفة ويتناول طعامه في بيئات تُسوّق فيها أطعمة مشبّعة بالسعرات الحرارية الرخيصة والملائمة لأسلوب معيشته.
وأسفرت جزئياً تلك التغييرات عن أن يجد الآن ملايين الناس الذين انتُشِلوا من براثن الفقر لكي ينضموا إلى الطبقة المتوسطة المتنعمة، أنفسهم عالقين في بؤس الإصابة بداء السكري وجميع مضاعفاته الباهظة التكلفة.
ووفقاً لإحصاءات عام 2015 التي نشرها الاتحاد الدولي لداء السكري، فقد كانت الهند تأوي ما يقارب 70 مليون بالغ متعايش مع الداء، وأشارت التقديرات إلى وقوع مليون وفاة فيها من جرائه في ذلك العام لوحده. ومن المؤكد أن يزداد الوضع سوءاً إبّان انتشار زيادة وزن السكان في البلد بنسبة 20% تقريباً.
على أن الصين هي مصدر الأخبار الأكثر ترويعاً من حيث الإصابة بالداء.
حيث نشرت في عام 2013 مجلة الرابطة الطبية الأميركية (American Medical Association) تقريراً من إعداد باحثين صينيين عن معدلات انتشار داء السكري ومكافحته في بلدهم.
وتشير تقديرات معدّي التقرير المبنية على نتائج مسح وطني كبير إلى أن الصين تأوي 14 مليون بالغ من المتعايشين مع داء السكري، أي أن انتشار الداء هو بنسبة 12% تقريباً بين صفوف سكان الصين البالغين. وتبيّن من المسح الذي خضع له هؤلاء أن أقل من ثلثهم يعرف بحالته المرضية، فيما لم يبلغ سوى ربعهم عن حصوله على العلاج.
وأشارت تقديرات الدراسة في نتيجة توصّلت إليها هي الأكثر ترويعاً إلى أن نصف إجمالي البالغين تقريباً من سكان الصين يبدون استعداداً مسبقاً للإصابة بالداء، ما يعني وجود عدد آخر من السكان قدره 493 مليون شخص يواجهون خطر الإصابة بهذا المرض الموهن وجميع مضاعفاته المُكلفة.
وأرجو أن تفكروا بما يعنيه هذا الأمر بالنسبة إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وأشار معدّو التقرير في معرض بحثهم عن تفسير لذلك إلى أن التعصير وارتفاع مستويات الدخل هما القوتان الدافعتان اللتان تقفان وراء التغييرات السريعة الطارئة على أنماط الحياة، ومنها التحوّل من النظم الغذائية الصحية تقليدياً إلى أخرى غربية الطابع.
وأدت التغطية الإعلامية الواسعة النطاق للتقرير المثير للذعر إلى قيام صحيفة صينية بنشر رسوم متحركة تصوّر مريضاً برفقة طبيبه، وهو يسأله بشغف.
"هل من علاج شافٍ لداء السكري؟" فيجيبه الطبيب "نعم". "إنه الفقر".
سيداتي وسادتي،
يمكن أن يتكلّل التدبير العلاجي لداء السكري بالنجاح، وخصوصاً عندما يُكشف عنه مبكّراً. ولدى المنظمة مبادئ توجيهية دولية بشأن تدبيره علاجياً، بوسائل منها الأدوية الخافضة لمستوى الأنسولين وسكر الغلوكوز في الدم والمُدرجة على قائمتها النموذجية للأدوية الأساسية.
بل ويمكن حتى على نحو أفضل الوقاية من الإصابة بالداء من خلال تنفيذ تدخلات تشمل السكان ككل من الناحية المثالية. ويستدعي تغيير البيئة التي يحدّد فيها الناس خياراتهم بشأن أنماط حياتهم أن تقطع الحكومة التزاماً استثنائياً وتتحلّى بالشجاعة والمثابرة.
وتوجّه سلسلة مجلة لانسيت لعام 2015 عن السمنة أصابع الاتهام إلى النظام الغذائي الدولي بوصفه المحرك الرئيسي لوباء السمنة على الصعيد العالمي.
وإضافة إلى ذلك، فإن البيئات المسببة للسمنة تشكّلها سياسات التجارة الدولية والإعانات الزراعية والإعلانات المكثّفة، على الأطفال أيضاً، وجماعات الضغط المتنفذة سياسياً، والأموال المستثمرة لأغراض تشويه البيّنات العلمية.
وقد شهدنا ذلك مؤخراً في تقرير عن الكيفية التي حاولت بها دوائر صناعة السكر أن ترشي خبراء التغذية بإحدى الجامعات المرموقة في الستينات من أجل أن يقلّلوا دور السكر في الإصابة بالأمراض.
وبدأ النظام الغذائي العالمي في النصف الثاني من القرن الماضي بالتركيز حصراً على زيادة إنتاج الأغذية وتخفيض أسعارها وأصبح إنتاجها صناعي الطابع.
واستُحدِثت تقنيات لزراعة الخضروات من دون تربة، وانتشرت عمليات إعلاف الحيوانات المحصورة لتلبية الطلب المتزايد على منتجات اللحوم والألبان الرخيصة.
وكشف التقرير الصادر في عام 2005 عن لجنة بيو المعنية بالإنتاج الصناعي للحوم الحيوانات في المزارع تحت عنوان "تقديم اللحوم على المائدة" النقاب عن العواقب الوخيمة التي تخلّفها مزارع إنتاج اللحوم الصناعية على البيئة وصحة الإنسان والرفق بالحيوان والمناطق الريفية في أمريكا.
ويُنظر عموماً إلى ذاك التقرير على أنه التقرير الأكثر تعمّقاً من حيث تفسير الأسباب التي تقف وراء خطورة إنتاج اللحوم الصناعية على الصحة وعدم استدامة إنتاجها.
وللأسف، فقد اعتمدت بلدان كثيرة من البلدان المتوسطة الدخل والمتوسطة الطبقة من حيث الازدهار، مثل البرازيل والصين والهند، نماذج تربية الحيوانات للأغراض الصناعية المُنتهجة في أمريكا الشمالية وأوروبا لتلبية الطلب المتزايد للمستهلك على اللحوم الذي يتلو دوماً مرحلة الازدهار الجديدة تقريباً.
فمثلاً، تمتلك الصين الآن مزارع ضخمة لتربية الحيوانات لأغراض الإنتاج الصناعي وهي قادرة على إنتاج أكثر من مليون خنزير سنوياً.
ومع أن تعزيز إنتاج اللحوم يحسّن حتماً سلامة الأغذية فإن إنتاجها غير مستدام بيئياً.
ويأتي ذلك في وقت تواظب فيه المنظمة وسائر الوكالات الصحية على إسداء النصح إلى فئات السكان بشأن الحد من استهلاك اللحوم بوصفها إحدى استراتيجيات الوقاية من الإصابة بالأمراض غير السارية.
وفي ضوء تلك الأسباب مجتمعة، فإن إنتاج الكثير من الأغذية أصبح الآن مجرّداً من غرضه الأساسي المتمثل في تزويد الإنسان بالمغذّيات التي تديم حياته في ظل تمتّعه بصحة جيدة.
وبناءً على سلسلة عمليات رفيعة مستوى جرت في مجال دمج الأعمال التجارية الزراعية والاستحواذ عليها، فإن تلك الأعمال هي الآن بمثابة مُجمّع عالمي من دوائر الصناعة التي تمسك بزمام إدارته حفنة لا غير من الشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات التي تتحكم في سلسلة الأغذية انطلاقاً من مرحلة توفير البذور والأعلاف والمواد الكيميائية وانتهاءً بمرحلة إنتاجها وتجهيزها وتسويقها وتوزيعها.
ويتمتع هذا المُجمّع العالمي من دوائر الصناعة بهيمنة ونفوذ هائلين ويساعد في تفسير الأسباب التي باتت بموجبها الوجبات الزهيدة القيمة الغذائية والعالية التجهيز الركيزة الجديدة للأغذية في العالم بشكل متزايد.
ويعكف المُجمّع على إبعاد النظم القديمة لإنتاج الغذاء التي يصون إدارتها صغار المالكين والمزارعون في الفناء الخلفي لدورهم ممّن دأبوا لردح من الزمن على إطعام الملايين من الناس في أفريقيا وآسيا. وترى الآن سلطات البلديات أن استيراد الأغذية المجهزة أرخص من جلب المنتجات الطازجة من المناطق النائية.
وتعارض دوائر صناعة الأغذية تدخّل الوكالات الصحية في شؤونها، من قبيل تدّخل المنظمة فيها، وهي دوائر لديها سطوة في مجال الاعتراض على التدخّلات.
ويمكن في هذا العالم الذي يعجّ بالكثير من أوجه عدم اليقين أن تهيمن الاعتبارات الاقتصادية والتجارية واعتبارات دوائر الصناعة على برامج العمل الوطنية والدولية وتتجاهل المصالح الفضلى للصحة العمومية.
على أننا نشهد إحراز بعض التقدم.
إذ أصدرت هيئة الدستور الغذائي في عام 2013 تكليفاً في مبادئها التوجيهية الدولية بشأن توسيم الأغذية يقضي بالكشف عن محتوى الأغذية الإجمالي من السكريات والصوديوم والدهون المشبّعة.
ولعل أقوى التوصيات الصادرة عن اللجنة التابعة للمنظمة والمعنية بالقضاء على سمنة الأطفال هي تلك التي تدعو الحكومات إلى فرض ضريبة فعلية على المشروبات المحلاة بالسكر. وتوصي المنظمة بأن ترفع الضريبة سعر المنتج بنسبة 20% على الأقل لكي تصبح ضريبة فعلية.
كما شجّع تقرير اللجنة الحكومات على تحمّل مسؤولياتها في مجال حماية الأطفال، ومنها مسؤوليتها عن اتخاذ الإجراءات من دون مراعاة تأثيرها على منتجي الأطعمة والمشروبات غير الصحية.
ولا تنطبق على الأطفال الحجة المسموعة غالباً والقائلة إن السلوكيات المتبعة بشأن نمط الحياة إنما هي مسألة اختيار شخصي، لأن سمنة الأطفال هي خطأ المجتمع وليس خطأهم.
وأصدرت المنظمة في العام الماضي مبادئ توجيهية جديدة بشأن السكريات الحرة، وأوصت فيها بألا تستأثر تلك السكريات سوى بنسبة تقل عن 10% من مدخول الطاقة الإجمالية، كما أوصت بتخفيض آخر في الطاقة الإجمالية نسبته أقل من 5% من أجل تحقيق المزيد من الفوائد الصحية.
ودفعت تلك المبادئ التوجيهية جنوب أفريقيا الموطونة بداء السمنة والفلبين التي تُصاب فيها نسبة 97% من الأطفال في سن السادسة بتسوس الأسنان إلى السعي في الحصول على إرشادات المنظمة فيما يتعلق بصياغة التشريعات اللازمة لفرض ضرائب على المشروبات المحلاة بالسكر.
وينضم هذان البلدان إلى مدن أمريكية مثل بيركلي وفيلادلفيا، اللتين تفرضان ضرائب فعلية على مياه الصودا، وستصوّت في الشهر المقبل ثلاث مدن أخرى على ضريبة يُقترح فرضها عليها.
ومن المفيد أيضاً تزويد المستهلكين بمعلومات شفافة، وإنني لأشيد بالسلطات الأمريكية في جهودها الرامية إلى ألا تُدرِج معلومات عن محتوى السكريات الكلّي في الوسوم المثبتة على المنتجات لبيان "حقائقها التغذوية" فحسب، بل أيضاً عن السكريات المضافة إليها.
وأتمنى لكم كل التوفيق والنجاح في إدخال هذه التغييرات.
سيداتي وسادتي،
لدي تعليق أخير.
يجب أن يسلّم المسؤولون الحكوميون لدى صياغتهم للاستراتيجيات الوقائية بأن انتشار ظاهرة السمنة وداء السكري على نطاق واسع فيما بين صفوف السكان هو ليس ضعف إرادتهم الفردية على مقاومة تناول الدهون والحلويات أو ممارسة المزيد من التمارين.
بل هو ضعف الإرادة السياسية على مكافحة الجهات المتنفذة التي تمسك بمقاليد الأنشطة الاقتصادية، مثل دوائر صناعة الأغذية ومياه الصودا.
وإذا فهمت الحكومات واجبها هذا فإن بإمكانها أن تكسب معركتها ضد السمنة وداء السكري، ويجب أن تُعطى الأولوية لمصالح الجمهور قبل مصالح الشركات.
شكراً لكم.