أصحاب السعادة، الضيوف الكرام، الزملاء والأصدقاء الأعزاء،
من دواعي سروري الكبير أن أرحّب بكم في المؤتمر العالمي العاشر لتعزيز الصحّة.
كما نحتفل اليوم بالذكرى السنوية الخامسة والثلاثين لميثاق أوتاوا لتعزيز الصحّة والذكرى السنوية العاشرة للإعلان السياسي بشأن المحدّدات الاجتماعية للصحّة المُعتمد في ريو دي جانيرو.
وموضوع مؤتمر هذا العام هو الرفاه والإنصاف والتنمية المستدامة.
ويشدّد دستور المنظمة، المُدوّن قبل أكثر من 70 عاماً في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، في تأكيده على أن "الصحّة هي حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرد انعدام المرض أو العجز.
فماذا يعني ذلك؟
يعني أن التمتّع بالصحّة لا يبدأ في المستشفى أو العيادة، بل يبدأ في منازلنا ومجتمعاتنا بالطعام الذي نتناوله والمياه التي نشربها، والهواء الذي نتنفسه، في مدارسنا وأماكن عملنا.
وقد تعزّز هذا التأكيد منذ ذلك الحين، بفضل الالتزام المقطوع بشأن "توفير الصحّة للجميع" في مؤتمر ألما-آتا المعقود في عام 1978 وإعلان أستانا الصادر في عام 2018، ومؤخراً بفضل الإعلان السياسي الرفيع المستوى بشأن التغطية الصحية الشاملة الصادر في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل عامين فقط.
وبالطبع، فإن أهداف التنمية المستدامة التي اعتمدتها بلدان العالم في عام 2015 تطرح رؤية شاملة بشأن رفاه الناس والكوكب والازدهار والسلام والشراكة. ومع أن تلك الأهداف العالمية السبعة عشر هي أهداف مستقلة في حد ذاتها، فإنها أهداف متكاملة وغير قابلة للتجزئة.
ورغم أن العالم أحرز تقدماً صوب تحقيق هذه الأهداف السامية، فإنه ليس كافياً تقريباً.
وما زالت هناك فجوات غير مقبولة داخل البلدان وفيما بينها، وقد كشفت جائحة كوفيد-19 عن أوجه التفاوت هذه.
وأثرت جائحة كوفيد-19 طوال العامين الماضيين على كل منحى في حياتنا، وعطّلت أنشطة المجتمعات والاقتصادات والحياة وسبل العيش.
وقد يشعر أناس كثيرون بأنهم ما عادوا قادرين على السيطرة على صحتهم، وأنهم يواجهون مستقبلاً غامضاً أكثر فأكثر.
وإضافة إلى الأثر المروّع لمرض كوفيد-19 نفسه، فقد تسبّبت الجائحة في تعطل الخدمات الصحية الأساسية مما عرقل الجهود الرامية إلى معالجة العديد من الأمراض والحالات الصحية الأخرى، ابتداء بالملاريا وصحّة الأم والأمراض النادرة وداء السكري والأمراض غير السارية وانتهاءً بالاضطرابات النفسية.
وتفاقمت أوجه الإجحاف والتفاوت القائمة واقترنت بوقوع ملايين آخرين في براثن الفقر وضياع أشهر عديدة من التعليم وزيادة لا تُحصى في حالات الإجهاد البدني والنفسي.
وأثبتت الجائحة أن كل شيء معرّض للخطر عندما تتعرّض الصحّة للخطر.
ولكن العكس صحيح أيضاً: فحماية الصحّة وتعزيزها يمكّنان الأفراد والأسر والمجتمعات والاقتصادات والبلدان من الازدهار.
ولهذا السبب يجب ألا يُنظر إلى الصحّة على أنها تكلفة، بل استثمار في إقامة مجتمعات منتجة وقادرة على الصمود وشاملة للجميع.
ويتطّلب منّا توفير الصحّة للجميع أن نسعى إلى العمل خارج حدود قطاع الصحّة، واتباع نهج شامل لجميع أجهزة الحكومة وشرائح المجتمع، بما يشمل الاقتصاد والشؤون المالية والبنية التحتية والإسكان والنقل والطاقة والبيئة.
وعلينا أن نغيّر جذرياً طريقة تفكير القادة السياسيين والقطاع الخاص والمؤسسات الدولية في الصحّة وتثمينهم لها، وأن نرسي نمواً قائماً على التمتّع بالصحة والرفاه بين صفوف الناس والكوكب والبلدان بجميع مستويات دخلها.
لقد حان الوقت للابتعاد عن التفكير في الصحّة بوصفها من عناصر الاقتصاد والنظر، عوضاً عن ذلك، في كيفية تمكين الاقتصاد من دعم بلوغ الهدف المجتمعي المتمثل في "توفير الصحّة للجميع" بوصفه استثماراً يشكّل أساس الاقتصادات المنتجة والقادرة على الصمود والشاملة للجميع.
وستساعد اللقاحات في القضاء على الجائحة، ولكنها لن تعالج مواطن الضعف الكامنة في جذورها.
وعندما تنقضي الجائحة، سنجد أنفسنا في مواجهة تحديات أكبر من تلك التي كنا نواجهها قبل اندلاعها، من الفقر والجوع والإجحاف والأمراض غير السارية وتغير المناخ وغير ذلك الكثير.
ولا يمكننا أن نعود - بل يجب ألا نعود - إلى اتباع الأنماط الاستغلالية نفسها في مجالي الإنتاج والاستهلاك، والاستخفاف ذاته بالكوكب الذي يمنحنا الحياة، ودورة الهلع والإهمال نفسها، وسياسات الاختلاف ذاتها التي أشعلت فتيل هذه الجائحة.
فقد أوصلتنا الجائحة إلى مفترق طرق.
فوراءنا طريق ممارسة العمل كالمعتاد - وهو الطريق الذي أوصلنا إلى هذه الأزمة.
وأمامنا طريق جديد، هو الطريق المودي إلى إقامة مجتمعات أوفر صحّة وأكثر قدرة على الصمود والاستدامة.
ويمثل هذا المؤتمر فرصة سانحة لإحراز التقدم على هذا الطريق؛ وإقامة حوار هادف، فضلاً عن تبادل الخبرات والتوصيات الملموسة بشأن أفضل السبل الكفيلة بإحراز التقدم في مجال تحقيق الرفاه.
ويحدّد ميثاق جنيف بشأن الرفاه الأهداف اللازمة لتحقيق نتائج صحية واجتماعية منصفة لأجيال الحاضر والمستقبل ضمن حدود قدرات البيئة.
ومع مضيكم قدماً في هذا الاتجاه، اسمحوا لي أن أترككم مع الأولويات الثلاث التالية:
أولاً، تذكّروا أن الصحّة جزء من نظام بيئي أكبر يشمل عوامل بيئية واجتماعية واقتصادية وسياسية.
وثانياً، يجب أن يُدرج في صميم جهودنا كلّها تحقيق تغطية صحية شاملة مبنية على رعاية صحية أولية متينة تشكّل حجر الزاوية لتأمين استقرار اجتماعي واقتصادي وسياسي.
وثالثاً، دعونا نعيد التفكير في ما يُروى عن الصحّة، لا بوصفها تكلفة، بل استثمار في مستقبلنا المشترك.
شكراً لكم، مع أطيب تمنياتي بعقد مؤتمر مثمر.