صباح الخير ومساء الخير عليكم جميعاً أينما كنتم وشكراً لكم على دعوتي إلى التحدث إليكم.

يسرني أن أعود إلى جامعة كولومبيا وإن كانت عودتي في شكل افتراضي.

كما تعلمون، أدليت بكلمتي الرئيسية الأولى بعد انتخابي لمنصب المدير العام في 2017 خلال منتدى القادة العالمي الذي عُقد في جامعة كولومبيا بشأن موضوع الأمن الصحي.

وقد بدأت كلمتي يومها بوصف جائحة الأنفلونزا التي شهدها عام 1918 أثناء الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من أن تلك الجائحة أودت بحياة عدد أكبر من الأشخاص مقارنة بالحرب في حد ذاتها فسرعان ما باتت في طي النسيان ولم تُستخلص منها أي دروس.

وأشرت آنذاك إلى احتمال ظهور وباء مدمر في أي بلد وفي أي وقت يقتل ملايين الأشخاص بسبب عدم تأهبنا لمواجهته.

وقلت إن الأمن الصحي العالمي لا يكون قوياً إلا بقدر قوة أضعف حلقة من حلقاته. فلن ينعم أحد بالأمان ما لم ينعم به الجميع.

وقلت أيضاً إننا لا نعلم مكان أو زمان الجائحة العالمية المقبلة لكننا نعلم أنها ستسفر عن خسائر فادحة في أرواح البشر وستلحق أضراراً جسيمة بالاقتصاد العالمي.

ولست مسروراً بتطابق جائحة كوفيد-19 مع السيناريو الذي عرضته عرضاً دقيقاً وقتذاك. وأتمنى لو كنت مخطئاً.

على أن منظمة الصحة العالمية على غرار غيرها من الجهات دقت ناقوس الخطر طوال سنين.

وقبل اندلاع جائحة كوفيد-19 كثيراً ما كنت أُسئل عن أكثر ما يؤرقني. وكان جوابي دون تردد هو جائحة عالمية يسببها فيروس تنفسي.

وقد أثبتت جائحة كوفيد-19 أن العالم لم يكن متأهباً في الواقع.

وبُلغت المنظمة حتى الآن عن إصابة أكثر من 110 ملايين شخص بمرض كوفيد-19 في جميع أنحاء العالم ووفاة أكثر من 2.5 مليون شخص بسبب هذا المرض.

لكننا نرى بوارق الأمل. فعلى المستوى العالمي، نلحظ انخفاضاً في عدد حالات الإصابة المبلغ عنها خلال ستة أسابيع متتالية وعدد حالات الوفاة خلال ثلاثة أسابيع على التوالي.

ويذكرنا هذا الاتجاه بإمكانية وقف انتشار مرض كوفيد-19 ومكافحته من خلال اتخاذ تدابير ثبتت فعاليتها في مجال الصحة العامة، حتى لو كان موضوع مناقشات الاجتماع المعقود اليوم هو اللقاحات.

هذا ما فعلته تماماً عدة بلدان في الواقع.

وعلينا ألا ننسى أن جميع البلدان لم تستجب لهذه الجائحة ولم تتأثر بها بالطريقة نفسها على الرغم من طابعها العالمي.

وتتمثل إحدى أعظم مآسي الجائحة منذ ظهورها في أن الأدوات اللازمة لمكافحتها توافرت في العالم بأسره لكن هذه الأدوات لم تُستخدم بفعالية في جميع البلدان.

ومن المهم التشديد على أن اللقاحات، وإن بدأ استخدامها في جميع أرجاء العالم، ستكون مكمّلة لتدابير الصحة العامة التي ندرك فعاليتها ولن تحل محلها.

ومع ذلك، لا شك في أن اللقاحات توفر الدعم الذي نحتاج إليه جميعاً.

ويُعتبر تطوير لقاحات مأمونة وناجعة واعتمادها بعد أقل من سنة من ظهور فيروس جديد إنجازاً علمياً مذهلاً يجب أن يغيّر توقعاتنا بشأن ما يمكن تحقيقه في مجال تطوير اللقاحات في المستقبل.

وأود أن أشيد بمساهمة الباحثين والمشاركين في التجارب والشراكات بين القطاعين العام والخاص في جعل هذا الإنجاز ممكناً.

وليس تطوير اللقاحات المضادة لكوفيد-19 بسرعة البرق أمراً وليد الصدفة بل هو نتاج عمل جار منذ سنين في الواقع.

ووفقاً لما ذكره طوني فاوتشي خلال جلسة الإحاطة الإعلامية التي عقدتها المنظمة البارحة، لقد أُجري معظم بحوث العلوم الأساسية التي تدعم تطوير هذه اللقاحات منذ عدة سنوات في إطار البحث عن لقاح مضاد لفيروس العوز المناعي البشري.

وبالنسبة إلى المنظمة، يرقى تاريخ تطوير اللقاحات المضادة لكوفيد-19 جزئياً إلى فاشية الإيبولا في غرب أفريقيا في الفترة من عام 2014 إلى عام 2016.

وعلى الرغم من تحديد فيروس الإيبولا منذ أربعة عقود وإجراء بحوث أكاديمية وبحوث في مجال الدفاع البيولوجي طوال عدة سنوات، فلم تطوَّر لقاحات ثبتت فعاليتها وتوقّف البحث في المرحلة قبل السريرية.

وتصدياً لذلك، شكّلت المنظمة اتحاداً عالمياً لتيسير تطوير عدة لقاحات مرشحة وتقييمها بسرعة.

وفي غينيا، عملنا على تنسيق تجربة ابتكارية في إطار المرحلة 3 وتعيين موظفين وطنيين وتدريبهم لإجراء التجربة.

وأُعلنت البيانات الأولية عن نجاعة اللقاحات بعد أربعة أشهر.

وبحلول ذلك، تضاءلت الفاشية ووصلت اللقاحات بعد أن فات الأوان ليستفيد منها أغلب الأشخاص المتضررين.

لكن اللقاحات التي طُوّرت آنذاك مثلت أداة حيوية للتصدي لفاشيات الإيبولا اللاحقة والحالية المتزامنة وغير المترابطة في جمهورية الكونغو الديمقراطية وغينيا.

وفي الواقع، بدأ التطعيم ضد الإيبولا في غينيا اليوم بينما استُهل في جمهورية الكونغو الديمقراطية في الأسبوع الماضي.

ولم تؤد فاشية الإيبولا في غرب أفريقيا إلى تطوير اللقاحات فحسب بل أفضت أيضاً إلى وضع مخطط المنظمة الأولي للبحث والتطوير من أجل الوقاية من الأوبئة الذي يعد استراتيجية ترمي إلى تيسير تطوير اللقاحات ووسائل التشخيص والعلاجات بسرعة بهدف التصدي للفاشيات.

 

وحدد المخطط الأولي للبحث والتطوير الصادر في عام 2016 قائمة بالأمراض ذات الأولوية، بما فيها المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية والأمراض التي تسببها فيروسات كورونا بصفة عامة إضافة إلى "الداء X المجهول" الذي يسببه عامل ممرض غير معروف، ووضع خريطة طريق للبحوث الخاصة بكل مرض من هذه الأمراض.

وأُعدت إحدى خرائط الطريق الأولى بخصوص فيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية الذي أصيب بالعدوى به 1600 شخص ولقي بسببه حوالي 600 شخص حتفهم في ذلك الوقت.

وأرسى جزء كبير من العمل المنجز فيما يتصل بتطوير لقاحات مضادة لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية الأسس لتطوير لقاحات مضادة لفيروس كورونا المستجد أي فيروس كورونا-سارس-2.

وكما تعلمون، أُخطرت المنظمة في آخر يوم من عام 2019 بوجود مجموعة من حالات الإصابة بالتهاب رئوي مجهول السبب في ووهان في الصين.

وفي غضون أسبوعين حدد باحثون صينيون فيروس كورونا المستجد باعتباره الفيروس المسبب للفاشية ونشروا البيانات عن التسلسل الجينومي لهذا الفيروس.

وفي الأسبوع نفسه، وجهت المنظمة أول دعوة من سلسلة دعوات الآلية العالمية لتنسيق البحث والتطوير.

ثم حشدت المنظمة في شهر شباط/ فبراير من العام الماضي أكثر من 300 باحث رئيسي من جميع أصقاع العالم تمشياً مع المخطط الأولي للبحث والتطوير بغية تحديد خريطة طريق للبحوث الخاصة بكوفيد-19 وتسريع وتيرة تنفيذها.

وبحلول شهر نيسان/ أبريل، نشرت المنظمة مجموعة من المنتجات لتوجيه تطوير اللقاحات، بما في ذلك مواصفات لمنتجات مستهدفة وبروتوكولات أساسية بشأن تجارب اللقاحات ونماذج حيوانية واختبارات وغير ذلك.

وواصلنا تتبع تطوير اللقاحات على الصعيد العالمي.

وفي الآونة الأخيرة، أصدرت المنظمة إذن الاستخدام في حالات الطوارئ فيما يخص ثلاثة لقاحات تألفت من لقاح شركة فايزر-بيونتيك ونسختين من لقاح شركة أسترازينيكا.

ويسمح إذن الاستخدام في حالات الطوارئ بموجب بروتوكول المنظمة لمرفق كوفاكس بشراء اللقاحات ويمكن البلدان من تسريع موافقة سلطاتها التنظيمية على استيراد اللقاحات وبدء استخدامها.

ولكن كما نقول مراراً وتكراراً، إن إنقاذ الأرواح لا يعتمد على اللقاحات بل على التطعيم.

وقد علمنا منذ بداية الجائحة أن اللقاحات ستكون أداة حاسمة لمكافحتها.

على أننا علمنا أيضاً بحكم التجربة أن توزيع اللقاحات المنصف لن يتحقق تلقائياً.

فاستخدام الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية لعلاج فيروس العوز المناعي البشري قد حظي بالموافقة لأول مرة في عام 1996 لكن سكان العالم الفقراء لم يتمكنوا من الحصول على هذه الأدوية إلا بعد مضي أكثر من عشر سنوات على ذلك.

وعلى الشاكلة نفسها، طُوّرت اللقاحات عند حدوث جائحة الأنفلونز H1N1 في عام 2009 إلا أن الجائحة كانت قد انتهت عندما تسنى للفقراء الحصول عليها.

وعليه، استهلت المنظمة مبادرة تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد-19 في شهر نيسان/ أبريل من العام الماضي بدعم من فرنسا وألمانيا والمفوضية الأوروبية وائتلاف من الجهات الشريكة ضم التحالف العالمي من أجل اللقاحات والتمنيع والائتلاف المعني بابتكارات التأهب لمواجهة الأوبئة وجهات أخرى.

وكان لمبادرة تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد-19 هدفان هما تيسير تطوير اللقاحات ووسائل التشخيص والعلاجات بسرعة لمكافحة كوفيد-19 وتوزيعها بإنصاف.

وقد تحقق الهدف الأول. أما الهدف الثاني فتحقيقه معرض للخطر.

وفي مطلع السنة، وجّهْت نداء للعمل لضمان تطعيم العاملين الصحيين والمسنين في جميع البلدان في غضون أول 100 يوم من هذه السنة.

وحتى الآن أُعطي ما يزيد على 210 ملايين جرعة من اللقاح على صعيد العالم.

وأُعطي أكثر من نصف هذه الجرعات في بلدين فقط وما يربو على 80% منها في 10 بلدان.

ويسرني أن أعلن إرسال الشحنات الأولى للجرعات عن طريق مرفق كوفاكس اليوم.

ولكن العديد من البلدان لم يتمكن بعد من إعطاء جرعة واحدة.

وندرك أنه من واجب الحكومات حماية سكان بلدانها.

غير أن أفضل طريقة لحمايتهم تتمثل في وقف انتشار الفيروس في كل المكان في الوقت نفسه.

فكلما زاد انتشار الفيروس، زاد احتمال خضوعه لطفرات يمكن أن تجعل اللقاحات أقل نجاعة. وقد نرجع في نهاية المطاف إلى المربع الأول.

وفي عالمنا المترابط إذا طال أمد استمرار انتشار الجائحة في أي مكان، فستتعطل التجارة وحركة السفر على الصعيد العالمي ويستغرق التعافي فترة أطول.

وليس الإنصاف في توفير اللقاحات مجرد فريضة أخلاقية بل يعتبر ضرورة اقتصادية واستراتيجية وهو في مصلحة كل بلد.

وقد أرست المنظمة والجهات الشريكة لها في مبادرة تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد-19 الأسس لتحقيق ذلك. فأنشأنا آلية لتقاسم الجرعات وأرسينا بروتوكولاً سريعاً لإذن الاستخدام في حالات الطوارئ ووضعنا آليات للتعويض بصرف النظر عن المسؤولية عن الخطأ واستكملنا تقييم مدى التأهب في معظم البلدان.

وقد عملنا مع البلدان عن كثب، من خلال مكاتبنا القطرية البالغ عددها 150 مكتباً، لإعدادها لبدء استخدام اللقاحات بأسرع وقت ممكن.

وهذه أخبار طيبة إلا أننا ما زلنا نواجه تحديات لا يُستهان بها للوفاء بوعود مبادرة تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد-19 ومرفق كوفاكس.

أولاً، ما زلنا نواجه فجوة تمويلية لا يقل مقدارها عن 22.9 مليار دولار أمريكي لدعم مبادرة تسريع إتاحة أدوات مكافحة كوفيد-19 خلال هذا العام.

وفي الأسبوع الماضي، تعهدت مجموعة الدول السبع بتوفير تمويل إضافي قدره 4.3 مليارات دولار أمريكي والتزمت عدة بلدان بتقاسم الجرعات مع مرفق كوفاكس.

وهذا أمر يلقى ترحيباً شديداً لكننا في حاجة إلى همم جميع البلدان.

وكلما طال أمد هذه الفجوة، يصبح من الأصعب فهم السبب إذ يتعلق الأمر بجزء ضئيل من آلاف مليارات الدولارات التي جرت تعبئتها لحِزم التحفيز.

وثانياً، ندعو جميع البلدان إلى احترام العقود المبرمة مع مرفق كوفاكس وعدم منافستها.

ويواصل بعض البلدان إبرام اتفاقات ثنائية بينما لا تمتلك بلدان أخرى أي شيء.

وما زلنا نسمع أن هناك بلداناً مرتفعة الدخل تعبر عن دعمها لمرفق كوفاكس علناً غير أنها تبرم عقوداً تقوّض المرفق سراً باقتراح أسعار أعلى والحد من عدد الجرعات التي يمكن للمرفق شراؤها.

وثالثاً، لا بد من تكثيف التصنيع بصورة عاجلة لزيادة كمية اللقاحات.

ويعني ذلك إرساء شراكات ابتكارية تشمل نقل التكنولوجيا والترخيص وآليات أخرى للتصدي للعقبات التي تحول دون الإنتاج.

وليس أي من هذه التحديات أمراً مستعصياً.

فقد سبق للعالم أن أثبت لدى تعرضه لتهديد لم يسبق له مثيل قدرته على إنجاز أمور لم يسبق لها مثيل.

وبفضل تدابير الصحة العامة التي ثبتت فعاليتها ووسائل التشخيص السريعة والأكسجين والديكساميثازون واللقاحات، تتوفر لدينا جميع الأدوات التي نحتاج إليها للسيطرة على الجائحة.

والسيطرة عليها ليست اختباراً للعلم بل هي اختبار للإنسان.

شكراً لكم.