تمتلك منظمة الصحة العالمية (المنظمة) التي تعمل في إطار تشاركها مع القطاعين العام والخاص كليهما تاريخاً يُفخر به في مجال علم اللقاحات.
ولقد تسنى بفضل برنامج المنظمة الرائد والمعني باختبار صلاحية اللقاحات مسبقاً عن طريق تقييم إمكانيات تزويد العالم بإمداداتها، نشر لقاحات مضمونة الجودة ومأمونة وناجعة لعشرات البلدان الموجودة بأنحاء العالم بأسره، وهو برنامج يمنح البلدان الأمن والثقة اللازمين للوقوف على ضمان استيفاء ما تشتريه من لقاحات لمعايير المنظمة فيما يتعلق بالمأمونية والنجاعة والجودة.
وزُوّد مئات الملايين من الأطفال بربوع العالم أجمع بلقاحات منقذة للأرواح بفضل البرنامج الموسع للتمنيع الذي أنشأته المنظمة في سبعينيات القرن الماضي بمساعدة كل من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) والتحالف العالمي من أجل اللقاحات والتمنيع (تحالف اللقاحات) وغيرهما، وهو برنامج مطبق بجميع بلدان العالم ويؤثر تأثيراً هو الأعمق من حيث وصوله إلى أبعد المناطق مقارنة بأي برنامج آخر منفذ في مجال الصحة العمومية. ويقدم موظفو المنظمة الدعم للحكومات والمهنيين الصحيين في ميدان إعطاء اللقاحات بالمواضع التي يلزم توفيرها فيها على أرض الواقع، ويُقاس معدل نجاحها بعدد ما تنقذه سنوياً من ملايين الأرواح. وتسنى بفضل التطعيم استئصال شأفة الجدري ويُوشك شلل الأطفال على أن يُدحر.
وتدرس المنظمة سنوياً اتجاهات الأنفلونزا في معرض وقوفها دوماً على أهبة الاستعداد لمواجهتها لتحديد السلالات الناشئة منها والتي ينبغي إدراجها في لقاح الأنفلونزا اللازم إعطاؤه بالموسم المقبل، وترصد باستمرار البوادر التي يُحتمل أن تدل على خطورة اندلاع الجوائح.
وتشير تقديرات المنظمة إلى أن عام 2018 (وهو آخر عام تتوفر فيه تقديرات) شهد وفاة 000 250 مولود بسبب كزاز المواليد، وهو تخفيض نسبته 88٪ في عددهم الذي بلغ 000 200 مولود في عام 2000.
وإن معدلات التغطية بلقاح فيروس الورم الحليمي البشري في العالم آخذة في الزيادة بعد أن اعتُمد اللقاح في 106 بلدان بحلول نهاية عام 2019، وهو ما يمثل ثلث سكان العالم من الفتيات.
وتحصل اليوم نسبة قدرها 86٪ من أطفال العالم على اللقاحات الأساسية المنقذة للأرواح، وقد زادت نسبتهم عمّا كانت عليه في عام 1980 والتي لم تبلغ سوى 20% تقريباً. وتوفر هذه اللقاحات الحماية لهؤلاء الأطفال ومجتمعاتهم المحلية من طائفة من الأمراض المعدية، ومنها الحصبة والخناق والكزاز والسعال الديكي والتهاب الكبد B وشلل الأطفال، علماً بأن عدد المصابين منهم بالشلل بسبب شلل الأطفال قد خفض بنسبة 99.9 في المائة بجميع أنحاء العالم طوال العقود الثلاثة الماضية.
ويأتي هذا القدر من الحماية ثمرة جهود حثيثة يبذلها العالم لزيادة معدلات إتاحة اللقاحات وتعزيز قدرة الفرد على تحمل تكاليفها في إطار المقدم بالعقود الأخيرة من دعم من شراكات جديدة مثل التحالف العالمي من أجل اللقاحات والتمنيع، تحالف اللقاحات – الذي يركز على توسيع نطاق توافر اللقاحات بأفقر البلدان - ومبادرة مكافحة الحصبة والحصبة الألمانية.
وشهدت أيضاً شراكات مبتكرة حصولها على مساعدة المنظمة في الإمساك بزمام كبرى حملات التطعيم ضد الكوليرا والحمى الصفراء، وأنتجت كذلك لقاحات ناجعة ضد التهاب السحايا والالتهاب الرئوي والإسهال وأول لقاح مضاد للملاريا بالعالم يُجرب حالياً في كل من غانا وكينيا وملاوي.
الإيبولا
لقد عرفنا مرض الإيبولا منذ سبعينيات القرن الماضي، ولكنه تصدّر عناوين الصحف في فترة الأعوام 2014-2016 عندما أزهقت جائحته المندلعة بغرب إفريقيا أرواح أكثر من 000 11 شخص، وأفضت إلى إجراء أولى التجارب البشرية على لقاح مضاد له وأحدثت تغييرات في طريقة استجابة العالم للفاشيات.
وسعياً إلى التصدي لخطر الإيبولا، فقد حُددت أولوية هي من أكبر الأولويات فيما يخص تمويل جهود اكتشاف اللقاحات المضادة للإيبولا واتباع مسار سريع في إجراء التجارب السريرية عليها وتسريع وتيرة الموافقة على إجراءات تنظيمها وتمكين الشركات المصنعة من
إنتاجها واستهلال طرحها في الأسواق. ولم يستغرق إجراء أولى التجارب على لقاح
rVSV-ZEBOV المضاد للإيبولا بغينيا في عام 2016 إلا عشرة أشهر جمالاً، وهي سرعة لم يسبق لها مثيل في ذلك الوقت.
وكانت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية قد أعلنت عن اندلاع فاشية جديدة من مرض فيروس الإيبولا يوم 8 أيار/ مايو 2018 في بيكورو التابعة لمقاطعة إكواتور، واستُهلت أنشطة التطعيم فيها يوم 21 من الشهر نفسه.
وتحدث الدكتور مايك رايان في المنظمة قائلاً "لقد أمضيت للتو يوماً مع فرق التطعيم العاملة في صفوف المجتمع المحلي، ورأيت لأول مرة في تجربتي هذه الأمل في مواجهة الإيبولا وليس الرعب."
وقد استُعمل لقاح الإيبولا عندما اندلعت فاشيته بشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية في آب/ أغسطس 2018 ، بعد أيام لا غير من الإعلان عن اندلاعها، وزاد عدد من حصلوا على التطعيم ضده على 000 300 شخص بالفترة الواقعة بين آب/ أغسطس 2018 وآذار/ مارس 2020، مما ساعد على إنقاذ الأرواح وإبطاء عجلة انتشاره.
ونظراً إلى أن لقاح rVSV-ZEBOV غير مرخص باستعماله، فقد استعمل "لدواع إنسانية" في إطار ما يُجرى حالياً من دراسات بحثية. وأبدى المتطوعون للمشاركة في الدراسة الجاري إجراؤها بجمهورية الكونغو الديمقراطية موافقتهم على ذلك وجرى رصد سلامتهم عند متابعتهم عقب تطعيمهم باللقاح. وأكدت النتائج المستمدة من الدراسات المتعلقة باللقاح المسُتعمل بجمهورية الكونغو الديمقراطية أن اللقاح ناجع في الوقاية من الإيبولا، وقد رُخص باستعماله بالولايات المتحدة وأوروبا في أواخر عام 2019، كما رُخص باستعماله بجمهورية الكونغو الديمقراطية وخمس بلدان أفريقية أخرى في وقت سابق من هذا العام عقب قيام المنظمة باختبار صلاحيته مسبقاً.
لقاح التهاب السحايا بأفريقيا
استفادت أفريقيا أيضاً من تطوير لقاح مبتكر آخر، بعد أن ألحقت أوبئة التهاب السحايا المستشرية على نطاق واسع الدمار ببلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لأكثر من 100 عام. وأُفيد أثناء اندلاع جائحة وخيمة من المرض في عامي 1996 و1997 بوقوع أكثر من
000
250 حالة ووفاة 2000 شخص عبر أنحاء ما يعرف باسم "حزام التهاب السحايا" الممتد من السنغال غرباً إلى إثيوبيا شرقاً.
وتحدى وزراء الصحة الأفارقة الخبراء المعنيين بشؤون الصحة العمومية واخصائيي الشؤون العلمية في أن يسعوا إلى إيجاد نهج جديد في ظل وجود أكثر من 450 مليون شخص من المعرضين لخطر الإصابة بمرض المكورات السحائيةA .
وأوصت المنظمة والمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها وبرنامج التكنولوجيا الملائمة في مجال الصحة بتطوير لقاح متقارن مضاد للمكورات السحائية لاستعماله بأفريقيا بحيث يمكنه أن يقلّل بشكل هادف من عبء المرض ويتغلب بنهاية المطاف على ما يندلع من أوبئته التي تتخذ شكل موجات.
واستُهل في عام 2005 إجراء التجارب السريرية على اللقاح في كل من غامبيا وغانا والهند ومالي والسنغال، واختبرت المنظمة صلاحيته مسبقاً في حزيران/ يونيو 2010. ووسّعت أولى البلدان التي أدخلته - بوركينا فاسو ومالي والنيجر – نطاق الأنشطة المُضطلع بها فيما يتعلق بترخيصه وإدارته والتخطيط لشن حملات التمنيع به ورصد الأحداث الضارة اللاحقة للتمنيع به وإدارتها.
وأدخل اللقاح المبتكر والميسور التكلفة في أواخر عام 2010 وحصل على التطعيم به منذ ذلك الحين أكثر من 300 مليون شخص يعيشون بالبلدان الواقعة ضمن نطاق حزام التهاب السحايا، مما أدى إلى تخفيض معدلات الإصابة به وتخليص تلك البلدان جميعها تقريباً من هذا السبب الرئيسي لاندلاع الأوبئة الفتاكة.
التطلع إلى المستقبل
إن لقاحي الإيبولا والتهاب السحايا هما من أكثر التطورات إثارة التي طرأت في مجال الصحة العمومية العالمية بالتاريخ الحديث، وكذلك حال تطور برامج التمنيع الروتيني التي حققت نجاحاً باهراً في مجال كبح جماح فاشيات الحصبة وشلل الأطفال التي ألحقت الدمار ذات مرة بالمجتمعات المحلية وأزهقت أرواح صغار الأطفال وشوهتهم. ونجح لقاحا المكورات الرئوية والفيروس العجلي في مكافحة بعض الأسباب الأكثر شيوعاً التي تقف ورء الوفيات الناجمة عن الالتهاب الرئوي والإسهال. وأدى ابتكار مصادر التمويل إلى تسريع وتيرة إدخال لقاح المكورات الرئوية، ممّا مكّن من تدشينه بعام 2011 في العالم لأول مرة بالبلدان الغنية وتلك الفقيرة في آن معاً.
وينقذ التمنيع سنوياً ملايين الأرواح، ولدينا الآن لقاحات للوقاية من 25 التهاباً ومكافحتها لمساعدة الناس بأعمارهم كافّة على العيش عمراً أطول وأوفر صحة. ويجري الآن نشر ثروة الخبرات التي اكتسبتها المنظمة وشركاؤها على مدى عقود من الزمن لتسريع وتيرة تطوير اللقاحات المضادة لمرض فيروس كورونا (كوفيد-19) وتوزيعها، بحيث لا يُهمل أي أحد عند إيجاد لقاح مأمون وناجع ضده. ولا تزال اللقاحات هي الوسيلة الأكثر مأمونية ومردودية للحماية من الأمراض وستؤمن أداة قوية للتصدي لجائحة كوفيد-19.